الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَهَذِهِ مِنَ الأُمُورِ الغَيْبِيَّةِ الَّتِي لَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهَا إِلَّا اللهُ تعالى، وَالخَوْضُ فِي هَذِهِ الأُمُورِ مِنَ العَبَثِ، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ شَغَلَ نَفْسَهُ بِالَّذِي كَلَّفَهُ اللهُ تعالى بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ؛ هَذَا أَوَّلًا.
ثَانِيًا: لَقَدْ كَتَبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَنَاءَ، وَكَتَبَ المَوْتَ عَلَى أَهْلِهَا، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى المَخْلُوقَاتِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾.
ثُمَّ بَعْدَ المَوْتِ البَعْثُ وَالنُّشُورُ وَالحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ البَاقِيَةُ بِبَقَاءِ اللهِ تعالى، يُجَازَى المُحْسِنُ عَلَى إِحْسَانِهِ وَالمُسِيءُ عَلَى إِسَاءَتِهِ، وَعِنْدَهَا يَنْقَسِمُ النَّاسُ إلى قِسْمَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾. وَيَكُونُ الخُلُودُ لِلْفَرِيقَيْنِ، أَهْلِ الجَنَّةِ فِي الجَنَّةِ، وَأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ أَيْ: بَاقِينَ فِيهَا أَبَدًا، بِغَيْرِ نِهَايَةٍ وَلَا انْقِطَاعٍ يدوم لَهُمْ ذَلِكَ أَبَدًا، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾.
لَا يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحَ، وَلَا يَحْيَا حَيَاةً تَنْفَعُهُ؛ أَجَارَنَا اللهُ تعالى مِنْ ذَلِكَ.
ثَالِثًا: المَوْتُ سَوْفَ يَمُوتُ، لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾. وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: وهَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا ﴿وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَلَا يَقُلْ قَائِلٌ: كَيْفَ يُذْبَحُ المَوْتُ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ؟
لَا تَقُلْ كَيْفَ مَعَ قُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ سَوْفَ يَجْعَلُ اللهُ المَوْتَ بِصُورَةِ كَبْشٍ حَقِيقَةً لَا خَيَالًا وَلَا تَمْثِيلًا، فَرَبُّنَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَكَمَا يُنْشِئُ مِنَ الأَعْمَالِ صُوَرًا مُعَايَنَةً لِيُثِيبَ بِهَا أَو يُعَاقِبَ، فَكَذَلَكَ يَجْعَلُ الْمَوْتَ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ ثُمَّ يُقْضَى عَلَيْهِ.
رَابِعًا: الخُلُودُ فِي الجَنَّةِ وَفِي النَّارِ مُحَقَّقٌ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُدْخِلُ اللهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَيُدْخِلُ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، كُلٌّ خَالِدٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ».
وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا» فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَالحَيَاةُ الدُّنْيَا إلى فَنَاءٍ، وَالمَخْلُوقَاتُ إلى المَوْتِ، وَبَعْدَ المَوْتِ حَيَاةٌ جَدِيدَةٌ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ بِبَقَاءِ اللهِ تعالى، فَإِمَّا إلى جَنَّةٍ لَا يَنْفَدُ نَعِيمُهَا، وَإِمَّا إلى جَهَنَّمَ عَذَابُهَا مُقِيمٌ دَائِمٌ إلى مَا لَا نِهَايَةَ.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ نِهَايَةِ الأَجَلِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ مَعَ أُصُولِنَا وَفُرُوعِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَأَحْبَابِنَا. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.