الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَلَقَدِ اسْتَقَرَّ الإِيمَانُ في قُلُوبِ الأُمَّةِ مِنْ زَمَنِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى زَمَنٍ قَرِيبٍ مِنَّا: أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ الرُّبُوبِيَّةُ فَهُوَ لِلْعِبَادِةِ مُسْتَحِقٌّ، وَمَنِ انْتَفَتْ عَنْهُ الرُّبُوبِيَّةُ فَهُوَ لِلْعِبَادِةِ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ، فَثُبُوتُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ مُتَلَازِمَانِ في دِينِ اللهِ تعالى، لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الآخَرِ، فَمَنْ أَقَرَّ وَاعْتَرَفَ أَنَّهُ لَا رَبَّ إِلَّا اللهُ، كَانَ مُعْتَرِفًا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ إِلَّا اللهُ.
وَمَا ثَبَتَ لَا فِي القُرْآنِ العَظِيمِ وَلَا فِي السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، وَلَا فِي أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَلَا فِي أَقْوَالِ التَّابِعِينَ، وَلَا فِي أَقْوَالِ الفُقَهَاءِ السَّالِفِينَ: أَنَّ التَّوْحِيدَ قِسْمَانِ، تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ تَوْحِيدَ الأُلُوهِيَّةِ، فَلَا قِيمَةَ وَلَا اعْتِبَارَ لِمَعْرِفَتِهِ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ.
رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَذْكُرُ في القُرْآنِ العَظِيمِ فِي كَثِيرٍ مِنَ المَوَاطِنِ يَذْكُرُ أَحَدَهُمَا دُونَ الآخَرِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾. حَيْثُ عَبَّرَ بِالإِلَهِ، وَلَمْ يُعَبِّرْ بِالرَّبِّ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي أَخْذِ المِيثَاقِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَهُمْ فِي عَالَمِ الذَّرِّ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾. لَمْ يَقُلْ: بِإِلَهِكُمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾. رَتَّبَ الجَزَاءَ لِهَؤُلَاءِ بِقَولِهِ: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾. أَيْنَ ذَكَرَ تَوْحِيدَ الأُلُوهِيَّةِ هُنَا؟ فَهَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ.
قَالَ: «قُلْ رَبِّيَ اللهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ».
لَمْ يَقُلْ: قُلْ إِلَهِيَ اللهُ، لِأَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ، لِأَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ تَوْحِيدَ الأُلُوهِيَّةِ.
وَالمَيْتُ عِنْدَمَا يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ، هَلْ يُسْأَلُ عَنْ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ؟ رَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ «.... فَيَأْتِيهِ آتٍ فَيَقُولُ: مَنْ رَبُّكَ؟ مَا دِينُكَ؟ مَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ....».
مَا يَقُولُ لَهُ المَلَكَانِ: لَقَدِ اعْتَرَفْتَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَأَيْنَ تَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ؟
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، بِحَيْثُ لَوْ ذُكِرَ أَحَدُهُمَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الآخَرِ، مَا رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا القَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَكَفَّ الأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ.
فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».
قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ.
لَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا أُسَامَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَقَدْ أَقَرَّ بِالأُلُوهِيَّةِ، وَلَكِنْ لَمْ يُقِرَّ بِالرُّبُوبِيَّةِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَالقَوْلُ بِأَحَدِ التَّوْحِيدَيْنِ قَوْلٌ بِالآخَرِ، فَمَنْ أَقَرَّ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ أَقَرَّ بِتَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ، وَمَنْ أَقَرَّ بِتَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ أَقَرَّ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ، وَأَنَّ الوَاحِدَ مِنْهُمَا لَا يُغْنِي عَنِ الآخَرِ، فَلْيَأْتِ بِآيَةٍ مِنْ كَتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ مِنْ حَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، أَوْ مِنْ كَلَامِ التَّابِعِينَ، أَوْ مِنْ كَلَامِ الفُقَهَاءِ، وَمَا أَحَدٌ مِنَ الفُقَهَاءِ وَلَا مِنَ المُحَدِّثِينَ في سَلَفِ الأُمَّةِ قَالَ: مَنْ لَمْ يَعْرِفْ تَوْحِيدَ الأُلُوهِيَّةِ فَلَا قِيمَةَ لِمَعْرِفَتِهِ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ.
فَالإِلَهُ هُوَ الرَّبُّ، وَالرَّبُّ هُوَ الإِلَهُ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ يَقَعُ كُلُّ لَفْظٍ مِنْهُمَا مَوْقِعَ الآخَرِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾. فَإِذَا كَانَ المُشْرِكُونَ يُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ، فَلِمَ قَالَ: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾. وَلَمْ يَقُلْ: اعْبُدُوا إِلَهَكُمْ، وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُشِيرُ إلى ذَلِكَ.
هَذِهِ البِدْعَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ مُؤَخَّرًا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ الغَايَةُ مِنْهَا تَكْفِيرُ مَنْ تَوَسَّلَ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِالصَّالِحِينَ، وَلَوْ أَقَرَّ المُتَوَسِّلُونَ بِقُلُوبِهِمْ أَنَّ المُتَوَسَّلَ بِهِمْ أَسْبَابٌ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُمْ بِنَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ، وَلَيْسَ لَهُمْ حَظٌّ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، بَلْ هُمْ مَفَاتِيحُ لِخَيْرِهِ، وَمَنَابِعُ لِبِرِّهِ.
رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
مَنِ الَّذِي يُنَفِّسُ الكَرْبَ حَقِيقَةً؟ اللهُ جَلَّ وَعَلَا، وَلَكِنَّ التَّوَسُّلَ سَبَبٌ مَعَ الاعْتِقَادِ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ مُسْتَقِلًّا عَنِ اللهِ تعالى. هذا، والله تعالى أعلم.