الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَإِنَّ فِرْقَةَ الجَبْرِيَّةِ قَدْ خَالَفَتْ مَنْهَجَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، حَيْثُ نَفَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ الفِعْلَ حَقِيقَةً عَنِ العَبْدِ، وَأَضَافَتْهُ إلى اللهِ تعالى، وَأَشْهَرُ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ الجَهْمِيَّةُ أَتْبَاعُ الجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يُوصَفُ بِالاسْتِطَاعَةِ عَلَى الفِعْلِ، بَلْ هُوَ مَجْبُورٌ بِمَا يَخْلُقُهُ اللهُ تعالى فِيهِ مِنَ الأَفْعَالِ، كَسَائِرِ الجَمَادَاتِ.
جَاءَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيَّةِ لِابْنِ جِبْرِينَ: هَذِهِ الفِرْقَةُ تَزْعُمُ أَنَّ العِبَادَ كُلَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَدْنَى قُدْرَةٍ، وَلَا أَدْنَى حَرَكَةٍ، وَإِنَّمَا حَرَكَاتُهُمْ وَرُكُوعُهُمْ وُسُجُودُهُمْ وَكَسْبُهُمْ وَعَطَاؤُهُمْ وَمَنْعُهُمْ، وَصَلَاتُهُمْ وَصَوْمُهُمْ، وَحَجُّهُمْ وَعُمْرَتُهُمْ، وَطَوَافُهُمْ وَسَعْيُهُمْ، وَجِهَادُهُمْ وَنَفَقَاتُهُمْ، كُلُّهَا لَيْسَتِ اخْتِيَارِيَّةً بَلْ قَهْرِيَّةً؛ وَكَذَلِكَ المَعَاصِي يَعْتَبِرُونَهَا قَهْرِيَّةً، فَهُمْ يَعْذُرُونَ مَنْ زَنَى، وَمَنْ سَرَقَ، وَمَنْ قَتَلَ، وَمَنْ شَرِبَ الخَمْرَ، وَمَنْ نَهَبَ، وَمَنْ سَلَبَ؛ لِأَنَّهُمْ فِي زَعْمِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ فِعْلٌ، بَلْ هُمْ مَجْبُورُونَ عَلَى هَذَا الفِعْلِ.
لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا تَبْطُلُ بِهِ الأَحْكَامُ، وَتُعَطَّلُ الشَّرَائِعُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ، مَا دَامَ المُطِيعُ مَجْبُورًا عَلَى الطَّاعَةِ، وَالعَاصِي مَجْبُورًا عَلَى المَعْصِيَةِ، إِذًا فَلِمَاذَا أَمَر اللهُ وَنَهَى؟
لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا تَجَرُّؤٌ عَلَى اللهِ جَلَّ وَعلَا. اهـ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَعَقِيدَةُ الجَبْرِيَّةِ أَنَّهُ لَا فِعْلَ لِأَحَدٍ غَيْرُ اللهِ تعالى، وَالإِنْسَانُ مَجْبُورٌ عَلَى عَمَلِهِ، لَا اخْتِيَارَ لَهُ، وَهِيَ عَقِيدَةٌ فَاسِدَةٌ وَمُخَالِفَةٌ لِعَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الإِنْسَانُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ، وَهُوَ مُخْتَارٌ مُخَيَّرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ إِرْسَالُ الرُّسُلِ وَالتَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ خِلَالِ الوَحْيِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْإِنْسَانِ اخْتِيَارٌ لَكَانَ إِرْسَالُ الرُّسُلِ وَالتَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ عَبَثًا، وَتَعَالَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَيَقُولُ العَلَّامَةُ ابْنُ عَابِدِينَ في حَاشِيَتِهِ: لَكِنَّ الْجَبْرِيَّةَ الْخَالِصَةَ يَقُولُونَ: إنَّ الْعَبْدَ بِمَنْزِلَةِ الْجَمَادَاتِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَإِنَّ عِلْمَهُ حَادِثٌ لَا فِي مَحَلٍّ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَتَّصِفُ بِمَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ يَفْنَيَانِ. اهـ. هذا، والله تعالى أعلم.