الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جِيلًا وَرِجَالًا لَا نَظِيرَ لَهُمْ، فَهُمْ خَيْرُ الخَلْقِ بَعْدَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ».
لَقَدْ كَانُوا نَمُوذَجًا صَالِحًا لِمَنْ أَرَادَ سَلَامَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾. كَانُوا نَمُوذَجًا كَامِلًا لِمَنْ أَرَادَ التَّقْوَى ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ هَذَا أَوَّلًا.
ثَانِيًا: الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ تَمَيَّزُوا بِإِيمَانٍ رَاسِخٍ رُسُوخَ الجِبَالِ، رَسَخَ الإِيمَانُ في قُلُوبِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، حَتَّى تَمَكَّنُوا مِنْ نَشْرِ هَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَلَمْ يَكُونُوا أَحْزَابًا وَشِيَعًا مُتَفَرِّقِينَ، مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الجَدَلَ وَالخِلَافَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، مَا كَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا فَسَّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا بَدَّعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَخَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ اللهِ تعالى الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ تعالى في القُرْآنِ العَظِيمِ، وَذَكَرَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَمَا سَأَلَ أَحَدُهُمْ: أَيْنَ اللهُ، في الأَرْضِ أَمْ فِي السَّمَاءِ؟ وَمَا سَأَلَ أَحَدُهُمْ: كَيْفَ اسْتَوَى اللهُ تعالى عَلَى العَرْشِ؟ وَمَا سَأَلَ أَحَدُهُمْ: مَا مَعْنَى قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾؟ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الأَسْئِلَةِ.
كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِحَقٍّ بِأَسْمَاءِ اللهِ تعالى وَبِصِفَاتِهِ مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
ثَالِثًا: لَقَدْ كَانُوا رِجَالًا صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، لَمْ يُغَيِّرُوا وَلَمْ يُبَدِّلُوا حَتَّى جَاءَهُمُ اليَقِينُ، وَذَلِكَ بِسِرِّ وُجُودِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ.
يَقُولُ العَلَّامَةُ ابْنُ رَجَبٍ: وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُرخِّصُ فِي المَسَائِلِ إِلَّا لِلْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ مِنَ الوُفُودِ القَادِمِينَ عَلَيْهِ، يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ، فَأَمَّا المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ المُقِيمُونَ بِالمَدِينَةِ الَّذِينَ رَسَخَ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَنُهُوا عَنِ المَسْأَلَةِ. اهـ.
وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلَهُ، وَنَحْنُ نَسْمَعُ.
فَالصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ عَنْهُمْ: لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا زَمَانَ الوَحْيِ وَشَرَفَ الصُّحْبَةِ، وَأَزَالَ نُورَ الصُّحْبَةِ عَنْهُمْ ظُلْمَ الشُّكُوكِ وَالأَوْهَامِ.
لَقَدْ كَانَ الصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كَذَلِكَ بِسِرِّ تَرْبِيَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ، القَائِمَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ التَّامِّ في مَسَائِلِ الدِّينِ عُمُومًا، وَالعَقِيدَةِ خُصُوصًا، مَعَ التَّرْكِيزِ عَلَى آيَاتِ الأَحْكَامِ وَالمُعَامَلَاتِ وَالأَخْلَاقِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالمَسَائِلِ العَمَلِيَّةِ.
مَعَ تَحْذِيرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ مِنَ الجَدَلِ العَقِيمِ الَّذِي لَا عَمَلَ تَحْتَهُ.
سِرُّ هَذَا الإِيمَانِ الرَّاسِخِ في قُلُوبِهِمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ إِضَافَةً لِمَا سَبَقَ، السَّلِيقَةُ العَرَبِيَّةُ الخَالِصَةُ مِنْ شَوَائِبِ العُجَمَةِ، وَالَّتِي كَانَ لَهَا الأَثَرُ الكَبِيرُ في فَهْمِ مَعَانِي القُرْآنِ العَظِيمِ وَمَقَاصِدِهِ، فَهُوَ الَّذِي نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، وَخَاطَبَ فِطْرَتَهُمُ الَّتِي فَطَرَهُمُ اللهُ تعالى عَلَيْهَا.
وَأَخِيرًا: مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحْبِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ عَلَى مُخْتَلَفِ طَبَقَاتِهِمْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ سَأَلَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى، وَبِصِفَاتِهِ العُلَا، الَّتِي وَرَدَت في القُرْآنِ العَظِيمِ، وَعَلَى لِسَانِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ لَقَدْ فَهِمُوا القُرْآنَ العَظِيمَ وَالسُّنَّةَ المُطَهَّرَةَ الَّتِي تَحَدَّثَتْ عَنِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِدُونِ سُؤَالٍ عَنْهَا.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَالصَّحْبُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ كَانَ إِيمَانُهُمْ مِثَالًا يُحْتَذَى بِهِ لِمَنْ أَرَادَ الفَوْزَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَكَانوُا رَاسِخِينَ في العِلْمِ، وَخَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَسْمَاءِ اللهِ تعالى وَبِصِفَاتِهِ العُلْيَا الَّتِي وَرَدَتْ في القُرْآنِ العَظِيمِ وَفِي السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، وَيَقُولُونَ: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾. اهْتَمُّوا بِالعَمَلِ خَشْيَةً مِنَ اللهِ تعالى ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. انْشَغَلُوا بِمَا كُلِّفُوا بِهِ مِنْ إِيمَانٍ مُطْلَقٍ، وَعَمَلٍ بِالأَحْكَامِ، وَتَحَلٍّ بِالأَخْلَاقِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ.
وَنَحْنُ اليَوْمَ لَا سَبِيلَ لِنَا إلى سَبِيلِ عِزَّتِنَا وَسِيَادَتِنَا وَسَعَادَتِنَا دُنْيَا وَأُخْرَى، إِلَّا إِذَا سِرْنَا سَيْرَ الصَّحْبِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ.
وَلْنَعْلَمْ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ آخِرَ هَذِهِ الأُمَّةِ إِلَّا بَمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا. هذا، والله تعالى أعلم.