الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}. فقد أثبت الحق عز وجل ثبوتَ الهم من امرأة العزيز، ونفاه عن سيدنا يوسف عليه السلام، لأنَّه رأى برهان ربه الذي كان أسبق من الهم.
ومن المعلوم أن حرف (لولا) يقول عنه العلماء حرف امتناع لوجود، كما يقول أحدنا: (لولا زيد عندك لأكرمتك). فوجود زيد عندك منع من إكرامك.
وقد يقول قائل: لماذا لم يقل الحق عز وجل: ولقد همت به ولم يهم بها؟
الجواب على ذلك:
أولاً: لو قال تعالى: (ولم يهم بها) لظن البعض بأنَّ سيدنا يوسف عليه السلام كان عنيناً ـ يعني لا يأتي النساء لضعف الرجولة فيه ـ وهذه صفة نقص وليست صفة كمال، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كاملون.
ثانياً: لو قال تعالى: (ولو يهم بها) لظن البعض أن قوى سيدنا يوسف عليه السلام خارت أمام امرأة العزيز هيبة منها، أو من هيبة الموقف الذي فاجأه فضاعت منه الرجولة بغتة، كما يحصل لبعض الرجال عندما يقترب من عروسه.
فالحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح لنا بأن سيدنا يوسف عليه السلام كان كامل الرجولة، ولولا رؤية البرهان من ربه لهمَّ، وهذا من شأن المؤمن القوي في إيمانه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) ر واه البخاري. فلولا خوف الله لوقع في المخالفة.
وإنني أتعجَّب ممن يحاول اتهام سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام بعد أن ثبتت براءته من ذلك بطرق عدة:
أولاً: أثبت براءته بقوله ـ وهو الصادق المصدوق لأنَّ هذا وصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ـ {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي}.
ثانياً: أثبتت براءته امرأةُ العزيز عندما قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ}. وقالت: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِين * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِين}.
ثالثاً: والنسوة أثبتن براءة عندما قال سيدنا يوسف عليه السلام: {مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيم * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ}.
رابعاً: الشاهد أثبت براءته عندما قال: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِين}.
خامساً: عزيز مصر أثبت براءته عندما قال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِين}. ولكن أدخله السجن ليحفظ مكانته من القيل والقال، وهذا شأن الغافل عن الله عز وجل لا يهمّه الأمر وإن صدر منه الظلم.
سادساً: الشيطان قال لربنا عز وجل: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين}. ويقول مولانا جل جلاله في حق سيدنا يوسف عليه السلام:{ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِين}. فهو عند الله من المُخلَصين، والشيطان يقرُّ بأنَّه ليس له على المُخلَصين سبيل.
سابعاً: الحق سبحانه وتعالى استجاب لدعائه عندما قال سيدنا يوسف عليه والسلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِين}. قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم}. فالله تعالى أثبت له العصمة، وامرأة العزيز أثبتت براءته، وعزيز مصر أثبت براءته، والشاهد كذلك، والنسوة، والشيطان مقر بأنَّه ليس له سبيل عليه وعلى أمثاله. فهذا هو الحق، والله تعالى أعلم.
ثانياً: من قال بأنَّ سيدنا يوسف عليه السلام تزوَّج من امرأة العزيز؟ وما نُسب إلى سيدنا يوسف عليه السلام من أنَّه تزوج امرأة العزيز فهو من كلام القُصّاص لا أصل له، وما ثبت عند المحدثين وما ورد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف من أنَّ سيدنا يرسف عليه السلام تزوَّج منها، وعلى كل حال هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر.
رابعاً: قال الإمام القرطبي في تفسيره المشهور: وفي هذا ما يدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أولاً ولا آخراً، لأنَّ الأنبياء لا يدبّرون في قتل مسلم، بل كانوا مسلمين، فارتكبوا معصية ثم تابوا.
وهذا هو الحق لأنَّ الأنبياء عليهم الصلاة السلام معصومون من الإقدام على الكبائر قبل النبوة وبعدها.
وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثٌ، ولا عن الصحابة الكرام قول، ولا عن التابعين أيضاً بأنَّ إخوة سيدنا يوسف عليه السلام كانوا أنبياء،لا قبل الفعل الذي صدر منهم ولا بعده.
أما ما ذكر في القرآن العظيم في قوله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ}. فليس المراد أولاده من صلبه، بل من ذريته، كما يقال لسائر الناس بنو آدم.
وقد جاء في قوله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُون * وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا}. وهذا صريح في أنَّ الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسماعيل.
وجاء في الحديث الشريف: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) رواه الطبراني. فلو كان إخوته أنبياء لشاركوه في هذا الكرم.
وعلى كل حال ما ثبت في القرآن ولا في السنة ولا في أقوال الصحابة ولا التابعين بأنَّهم كانوا أنبياء.
رابعاً: أوما علمت يا أخي أنَّ هذا البكاء من الرحمة، والرحمة لا تنزع إلا من شقي؟ أوما علمت يا أخي بأنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلا نَقُولُ إِلا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ) رواه البخاري؟
أوما علمت يا أخي بأنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من البشر يتأثرون كما يتأثر البشر؟ ولو لم يكونوا كذلك فكيف تكون القدوة فيهم؟ وهل يليق فينا أن نقول: فهذا لا يليق بمقام الأنبياء ، نستغفر الله عز وجل من ذلك، وطوبى لمن عرف حدَّه فوقف عنده. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |