الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أولاً: من المعلوم أن الأقرب إلى قلب العبد الابن، ثم الزوجة، ثم الأبوان، ثم الأخ.
ثانياً: الأحوال في أرض المحشر مختلفة، فهناك حال العرض والحساب، وهناك حال العذاب، ففي الأول يكون الفرار من الحقوق، وفي الثاني يكون الفداء من العذاب.
وبناء على ذلك:
ففي مقام الفرار من الحقوق قدَّم الفرار من الأبعد إلى الأقرب إلى قلبه، فيفرُّ أولاً من أخيه، ثم من أبويه، ثم من الزوجة، ثم من الولد الذي هو الأقرب للقلب.
أما في مقام الفداء من العذاب، فقدَّم الأقرب إلى قلبه ثم الأبعد، حتى ينجو من العذاب، لأن جهنم عندما يؤتى بها إلى أرض المحشر، ولها سبعون ألف زمام، وعلى كلِّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها إلى أرض المحشر، ويسمع الناس تغيُّظها وزفيرها، فالموقف لا يحتمل المساومة، لذلك قدَّم الأقرب إلى القلب، فبدأ بأعزِّ ما عنده ألا وهو الولد، ثم الزوجة، ثم الأخ، ثم العشيرة، ثم من في الأرض جميعاً، حتى ينجو من العذاب والعياذ بالله تعالى.
ولم يذكر في مقام الفداء الأبوين تأدُّباً معهما وإكراما لهما والله تعالى أعلم.
وما ذُكر في سورة عبس والمعارج هو في الحقيقة ذِكرٌ لحال العبد المجرم الذي أسرف في حقِّ نفسه، فباع دينه بدنياه، أما أهل الإيمان والعمل الصالح الذين باعوا دنياهم بدينهم فليس هذا وصفهم، فلن يفروا من بعضهم، فضلاً عن الفداء، بل يجمعهم الله تعالى في الجنات ببركة صبرهم على الطاعات، وصبرهم عن المعاصي والمنكرات، وصبرهم على الابتلاءات، كما قال تعالى في حقِّهم: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّار * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار}. اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |