الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أولاً: إِنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ أَمْرٌ مُبَاحٌ مَشْرُوعٌ بِنَصِّ القُرْآنِ الكَرِيمِ: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾.
وَذَهَبَ الكَثِيرُ مِنَ الفُقَهَاءِ إلى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ الرَّجُلُ في النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ، إِنْ حَصَلَ بِهَا الإِعْفَافُ، لِمَا في الزِّيَادَةِ عَلَى الوَاحِدَةِ مِنَ التَّعَرُّضِ للمُحَرَّمِ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾.
ثانياً: العَدْلُ مِيزَانُ اللهِ تعالى في الأَرْضِ، وَهُوَ قَوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَسَبَبُ صَلَاحِ الخَلْقِ، وَبِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، قَالَ تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.
وَقَدْ حَذَّرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الظُّلْمِ، فَقَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَمِنْ أَقْبَحِ الظُّلْمِ ظُلْمُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهُ غَافِلَاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾.
وبناء على ذلك:
فَتَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ أَمْرٌ أَبَاحَهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ، وَلَيْسَ سُنَّةً، وَلَكِنَّ الزَّوَاجَ سُنَّةٌ، فَمَنْ تَزَوَّجَ وَاحِدَةً فَقَدْ أَتَى بِالسُّنَّةِ.
وَمَنْ أَرَادَ أَن يُعَدِّدَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ بِالعَدْلِ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ، لِأَنَّ العَدْلَ مِنْ أَجَلِّ العِبَادَاتِ، وَأَوْجَبِ الطَّاعَاتِ، وَالظُّلْمَ مِنْ أَقْبَحِ الذُّنُوبِ، وَلِهَذَا حَرَّمَهُ اللهُ تعالى عَلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمَاً، فَلَا تَظَالَمُوا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَالعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ مِنْ أَوْجَبِ الوَاجِبَاتِ.
عَدْلٌ في المَبِيتِ، عَدْلٌ في المَسْكَنِ، عَدْلٌ في النَّفَقَةِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ وَمَلْبَسٍ، وَعَدْلٌ في الهَدَايَا وَالعَطَايَا.
وَمَنْ لَمْ يَعْدِلْ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ وَقَعَ في الظُّلْمِ، وَوَقَعَ تَحْتَ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ الذي حَذَّرَ مِنْهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الإمام أحمد وابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، يَمِيلُ مَعَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ» أَيْ: أَحَدُ نِصْفَيْهِ، يَعْنِي: يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ غَيْرَ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ بِالنَّظَرِ إلى المَرْأَتَيْنِ، بَلْ كَانَ يُرَجِّحُ إِحْدَاهُمَا.
وَفِي رِوَايَةٍ للإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجُرُّ أَحَدَ شِقَّيْهِ سَاقِطَاً ـ أَوْ مَائِلًا ـ».
وَفِي رِوَايَةٍ لأبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ».
وَفِي رِوَايَةٍ للترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ».
في الخِتَامِ: إِنْ كُنْتَ قَادِرَاً عَلَى العَدْلِ فَأَقْدِمْ عَلَى الزَّوَاجِ مِنْ ثَانِيَةٍ، إِذَا كُنْتَ مُضْطَرَّاً للزَّوَاجِ بِثَانِيَةٍ، وَإِلَّا فَيَحْرُمُ عَلَيْكَ هَذَا الزَّوَاجُ، لِأَنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ.
فَاحْذَرْ مِنْ أَنْ تُقْدِمَ عَلَى أَمْرٍ مُبَاحٍ يُوصِلُكَ إلى مُحَرَّمٍ، فَدَرْءُ المَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ المَصَالِحِ. هذا، والله تعالى أعلم.