الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ سُئِلَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ العَرَبِيُّ أَحَدُ الأَئِمَّةِ المَالِكِيَّةِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى عَنْ رَجُلٍ قَالَ: إِنَّ آبَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في النَّارِ.
فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى وَرَضِيَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ مَلْعُونٌ، لِأَنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾. ثُمَّ قَالَ: وَلَا أَذَى أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُقَالَ عَنْ أَبِيهِ في النَّارِ. اهـ.
وَقَالَ الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ الرَّوْضُ الأُنُفِ: وَلَيْسَ لَنَا نَحْنُ أَنْ نَقُولَ ذَلِكَ في أَبَوَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُؤْذُوا الأَحْيَاءَ بِسَبِّ الْأَمْوَاتِ».
وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾.
وَإِذَا كَانَتِ الأُمَّةُ مَأْمُورَةً أَنْ تُمْسِكَ إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَأَنْ تُمْسِكَ وَتَكُفَّ عَنْ أَبَوَيْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ وَأَحْرَى.
وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:
حَبَا اللهُ النَّبِيَّ مَزِيدَ فَضْلٍ *** عَـلَى فَـضْلٍ وَكَانَ بِهِ رَؤُوفَا
فَـأَحْـيَـا أُمَّـهُ وَكَـذَا أَبَـاهُ *** لِإِيمَانٍ بِـهِ فَـضْـلَاً لَـطِـيـفَا
فَسَلِّمْ فَالقَدِيمُ بِذَا قَـدِيـرٌ *** وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ بِهِ ضَعِيفَا
وَلَا شَكَّ وَلَا خَفَاءَ في أَنَّ إِثْبَاتَ الشِّرْكِ في أَبَوَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِخْلَالٌ ظَاهِرٌ بِشَرَفِ نَسَبِ نَبِيِّنَا سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
روى الحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «....... ثُمَّ خَلَقَ الْخَلْقَ فَاخْتَارَ مِنَ الْخَلْقِ بَنِي آدَمَ وَاخْتَارَ مِنْ بَنِي آدَمَ العَرَبَ، وَاخْتَارَ مِنَ العَرَبِ مُضَرَ، وَاخْتَارَ مِنْ مُضَرَ قُرَيْشَاً، وَاخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاخْتَارَنِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَأَنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ خِيَارٍ إِلَى خِيَارٍ، فَمَنْ أَحَبَّ الْعَرَبَ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَ العَرَبَ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ».
وروى ابْنُ عَسَاكِرَ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ حَجَرٍ في المَطَالِبِ العَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَلَمْ يَزَلْ يَنْقُلْنِي مِنْ أَصْلَابِ الْكِرَامِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ حَتَّى أَخْرَجَنِي مِنْ بَيْنِ أَبَوَيَّ».
وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:
لِـوَالِـدَيْ طَـهَ مَـقَـامٌ عَلَا *** فِي جَـنَّـةِ الخُـلْـدِ وَدَارِ الـثَّـــوَابِ
وَقَطْرَةٌ مِنْ فَـضَـلَاتٍ لَــهُ *** فِي الجَوْفِ تُنْجِي مِنْ أَلِيمِ العِـقَابِ
فَكَيْفَ أَرْحَامٌ لَهُ قَدْ غَدَتْ *** حَامِلَةً تُصْلَى بِنَارِ الـــــــــعَذَابِ؟
وروى الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَاهُ مَالِكَ بْنَ سِنَانٍ لَمَّا أُصِيبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ يَوْمَ أُحُدٍ مَصَّ دَمَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَازْدَرَدَهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَشْرَبُ الدَّمَ؟
فَقَالَ: نَعَمْ، أَشْرَبُ دَمَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَلَطَ دَمِي بِدَمِهِ لَا تَمَسُّهُ النَّارُ».
فَإِذَا كَانَ هَذَا صَرِيحَاً في حَقِّ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، فَكَيْفَ بِمَنْ رُبِّيَ مِنْ دَمِهَا وَلَحْمِهَا وَرُبِّيَ في بَطْنِهَا، وَمَنْ كَانَ أَصْلُ خِلْقَتِهِ مِنْهُ يَدْخُلُ النَّارَ؟
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَنَحْنُ لَا نَشُكُّ في طَهَارَةِ نَسَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَشُكُّ أَنَّهُ وُلِدَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ خِيَارٍ إلى خِيَارٍ، وَلَا نَشُكُّ في نَجَاةِ أَبَوَيْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وَعَدَمُ الإِذْنِ في الاسْتِغْفَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى الكُفْرِ، كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ عَلَى المَيْتِ الذي عَلَيْهِ دَيْنٌ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ كَافِرٍ، وَعَدَمُ الاسْتِغْفَارِ للمُشْرِكِينَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَبْيِينِ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الجَحِيمِ، وَذَلِكَ بَعْدَ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَالكُفْرِ بِهَا، وَوَالِدَا سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَبْلُغْهُمَا دَعْوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمَا مَاتَا قَبْلَ البِعْثَةِ.
وَسُؤَالِي لِمَنْ يَتَعَرَّضُ لِأَبَوَيِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَحْكُمُ عَلَيْهِمَا أَنَّهُمَا في النَّارِ: مَا الغَايَةُ مِنْ ذَلِكَ؟
أَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا العَبْدُ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ»؟ رواه الحاكم والترمذي وأبو داود عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
أَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَتِ النُّجُومُ فَأَمْسِكُوا، وَإِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا»؟ رواه الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا»؟ رواه الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
ورواه الترمذي عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِلَفْظِ: «لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَتُؤْذُوا الأَحْيَاءَ».
وَهَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ في البَحْثِ عَنْ هَذَا المَوْضُوعِ؟ هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |